لقد أفسدت المواقع الإلكترونية فنون الصياغة الصحافية وطمست هوية الصحفيين، وأصبح الجميع يظفرون باللقب، حتى المدون أطلق على نفسه صحفي، إذ غاب عن كتابة الأخبار أبسط القواعد المهنية المتبعة التي تعلمناها، واختلط التحقيق بالتقرير، وأدمجت المقابلات الصحافية مع التصريحات الخاصة، حتى فن كتابة المقال الصحفي الذي يعتمد على الرؤية والتحليل والثقافة الواسعة واختيار المفردات وتوصيل الرسائل المطلوبة بشكل مهني مبسط أصبح غائبا بشكل كبير، ومع ذلك فالكل يكتب.
منذ عهدي بالصحافة والكتابة قبل حوالي 30 عاما وأنا أدرك جيدا أن مهنة الصحافة هي المهنة الوحيدة التي تعتمد على الموهبة في المقام الأول، ثم يأتي في المقام الثاني تعلم الأسس والأصول التي تفرق بين القوالب الصحافية المختلفة، ويبقى الإبداع والابتكار المبني على أسس علمية هو الفارق بين صحفي وآخر.
كانت الصحافة في وقت سابق قبل ظهور وانتشار المواقع الإلكترونية ووسائل التواصل المختلفة تعتمد على حصول المحرر على المعلومة من مصادرها، وكان هذا أمرا شاقا ومتعبا، ولذلك أطلقوا عليها “مهنة البحث عن المتاعب”، لأن المحرر كان يبذل جهدا كبيرا ومشقة، ويذهب إلى موقع الحدث ويحقق ويبحث عن المعلومة حتى يقدم للقارئ الخبر بشكل صحيح في صورة خبر يتبعه تقرير وينتهي بتحقيق صحفي حسب أهمية الحدث، أما اليوم فوسائل التواصل الحديثة والصحافة التلفزيونية وصحافة السوشيال ميديا واليوتيوب، قضت على دور الصحفي، فالمعلومة تصل إلى المتابع وقت حدوثها بأشكال مختلفة من خلال بث مباشر في وسائل التواصل الاجتماعي من أحد الحاضرين، وهي ما يطلق عليها “صحافة المواطن”، ولذلك وحتى يظل دور الصحفي قائما لابد أن يبحث عن دور آخر في الأحداث ويطور نفسه، فالصحفي الذي يملك الأدوات عليه أن يستفيد من المعلومات المتوفرة، ويقدم فكرة بحثية مختلفة، وهذا لن يحدث إلا مع من يملك الأدوات، إذ إن أغلب الصحفيين وليس كلهم أصبحوا نقلة فقط للأخبار والتقارير من الوكالات والمواقع المهنية، ولا يكلفون أنفسهم حتى التغيير أو الابتكار في عرض المعلومات من خلال إعادة الصياغة، وهو ما نطلق عليه في العلوم الصحافية “الديسك”، فالمادة المنقولة “كوبي بست” واحدة بكل أخطائها الإملائية والنحوية، واللافت للنظر هو تدني مستوى صياغة الأخبار وكتابة البيانات بشكل كبير، حتى أصبح الصحفي كالمدون لا يعرف القواعد الإملائية ولا النحوية.
في ظل هذا المشهد العبثي يوجد أقلام مصرية وعربية تمتلك كل فنون العمل الصحفي، ومع ذلك تجدهم بلا منابر ولا صحف ولا حتى مواقع، ويعرضون إنتاجهم على صفحاتهم الشخصية على الفيسبوك وهو إنتاج يستحق أن يوضع في أهم المنابر وأبرزها.
للأسف الشديد هناك مدونات وصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي تقدم محتوى مهنيا يتفوق على أهم الصحف العربية والعالمية، وهنا لا أحكم على المعروض من حجم المتابعين والانتشار، ولكن الحكم من خلال مهنية العرض، لأن البضاعة الجيدة تعيش طويلا، والرديئة سرعان ما تنتهي تصديقا لقول الله تعالى “فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض”. صدق الله العظيم.
وفي النهاية أقول، إن الفهم والإدراك والتحليل والتحقيق للمعلومة هو نقطة الانطلاق الحقيقية للمحرر كي يعرضها بطريقة مفهومة للقارئ، فمن لا يملك فهم النص لا يستطيع عرضه، وسوف أستكمل في المقال المقبل كيفية التعامل الصحفي مع المصطلحات السياسية.